بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ يبصم بيديه وقدميه الصغار الحجم على التراب الأحمر، كأنه يرسم لوحة تعبيرية قد رآها في أحلامه.
نفض يديه من التراب ومسحها بببجامته المقلمة بخطوط خضراء، داكنة والتي خيطت لعدة مرات بخيط أسود.
وقف ليلمح من بعيد أطفالاً يعرفهم وهم يلعبون ويدحرجون إطار سيارة مهترىء، ركض بسرعة نحوهم وأوقفهم طالباً منهم أن يضعوه في جوف الإطار ليدحرجوه وهو مقرفص يلملم يديه ورجليه ويضع بينهما رأسه الصغير وكان يلف ويدور مع دوران الإطار حتى بدا الغثيان يتسلل إلى رأسه.
خرج وكانت الفرحة تغمره كونه يرى البيوت العتيقة من حوله تتمايل وترقص.
كان لعبه خشناً ولا يخلو من الخطورة في بعض الأحيان ولكن ملّ العمل أراد أن يملأ وقته باللعب فهذا حال الأطفال في كل العالم.
تمنى يوماً بعد يوم أن يحظى بالألعاب والسيارات الصغيرة التي تعمل على البطارية والدراجة الهوائية الملونة ذات الجرس الصادح ولكن تحولت أمنياته الوردية إلى أحلام تهرب وتفر من عينيه عند بزوغ ضوء النهار عليها.
فالفقر لئيم والعوز القاتل فتك بعائلته حتى بات الأب المجاهد يعمل طوال النهار ولا يستطيع سد رمق الخمسة أطفال وتوفير قوت عائلته اليومي.
كانوا يلعبون في حي غابت عنه كل أوجه ومعالم الحضارة بل كان الفقر الأسود يخيم على كل الأزقة والحارات في الحي، داخلاً كل البيوت ملبساً ساكنيها أثواباً بالية كأنها آخر صيحات الموضة.
وراحت اصوات الراديو تصدح من كل مكان من الأبواب والشبابيك فالكل انغمس في آخر الأنباء لأحداث الحرب.. قصف هناك وقتلى هنا.. وحريق في الجوار.. والسفير الفلاني زار السفير فلان..
كانت كل هذه الأخبار لا تهمه ويحس بها كبيرة وقاسية على مسامعه ولا تلائم عمره وروحه الفرحة، أخذته أقدامه إلى الحديقة العامة التي أصبحت أرضاً بور تملؤها الخردوات والبرك الآسنة والوحل.
جلس يتأمل بركة بدا لون مائها أخضر من أثر الطحالب، مد غصن بيده كأنه يصيد شيئاً بدا له منها، فإذا طينها الأسود قد صبغ رأس العصا ضمها إلى جانبه محاذراً من أن توسخ ملابسه وتمعّن في البركة وإذا بشيء يلمع ويلوح له من وسط البركة.
شيء بدا له في أول وهلة أنه كرة طليت بلون أصفر وقسمها خط أحمر جميل إلى نصفين..
دار حول البركة كي يرى الشيء من جميع جوانبه.
ردد قائلاً إنها كرة.. صمت برهة ثم صاح إنها لعبة جميلة.. إنها لعبتي الجديدة.
بانت على ملامحه الصغيرة غبطة من الفرح هزت أكتافه وراح يقفز من شدة المفاجأة إنها لعبتي الجديدة.
حاول مد العصا ليطولها ولكن خاف عليها من أن تنغمس في الوحل وتضيع عليه، راح يفكر ما العمل رفع أكمام بيجامته إلى الركبتين وهمّ بالدخول في البركة ولكن خاف عقاب والده.
وكذلك هناك زجاج محطم في البركة قد يصيب أسفل قدميه ويجرحه.
تردد في التفكير وإذا بصوت المؤذن (سيد كاظم) يرفع الآذان معلناً حلول صلاة المغرب ذلك الصوت الرخيم الذي ارتبط بقلوب أهل الحي وراحوا يطربون له وينساقون نحو الجامع الذي يصدر الصوت من مئذنته البسيطة والمتكونة من براميل ركب بعضها على بعض.
كان صوت المؤذن قد أصابه بصاعقة من الارتباك، هرع من مكانه متجهاً صوب البيت.. لا بد أن يكون في هذا الوقت جالساً في البيت وقبل رجوع الأب من العمل، وقف وهمهم بصوت ضعيف (واللعبة..؟!).
ثم رد على نفسه التساؤل سوف لن يراها أحد غيري. فإن الليل قد أسدل ستاراً من الظلام.. وسوف أعود غداً باكراً لعلي أجد طريقة للوصول إليها.
دخل البيت والقلق يملؤه خشية ضياع اللعبة التي حلم بها طويلاً، غسل يديه ورجليه وصب الماء على رأسه كي يزيل ما علق بشعره من التراب.
مسح رأسه برداء لأمه كان معلقاً على الباب، وجلس في زاوية الغرفة يرمق بعينيه أمه التعبة وهي تعد العشاء مع أخواته الاثنتين.
بان على أمه الاستغراب لحالته فهو لم يكن كعادته مشاكساً حركاً واقفاً عند باب المطبخ يبكي للإسراع بتجهيز الطعام لسد جوعه المتزايد.
وعندما عاد الأب المتعب أخبرته الأم الحنون بحال ولده الغالي فراح يمسح على رأسه ويضع راحة يده على جبهته ويسأله (بني هل أنت مريض.. هل أصبت بمكروه؟).
كان الجواب بلا ولم تبد عليه علامات المرض.
بان الضوء الأصفر المنبعث من المصباح الوحيد المعلق في سقف الغرفة ثقيلاً فأثقل جفونه ليغط في نوم عميق فداعبت غزيلات أحلامه الطفولية مخيلته الخصبة باللعبة التي رآها ما ستكون؟ وهل تعمل على البطارية أم أنها.. أم... أم...!.
صحا من النوم باكراً كعادته ولكن هذه المرة يحدوه الأمل بشرب كأس من الشاي مسرعاً ورغيف الخبز حمله بيده وانطلق نحو الشارع متجهاً صوب البركة التي استقرت بوسط وحلها الأسود لعبته الجديدة، عندما وصل داهمته فكرة للوصول إليها فحمل حجارة ورماها في البركة قريباً منه وجاء بحجر آخر ورماه قريباً من الأول وهكذا بدأ يحمل الحجارة ويصفها شاقاً طريقه نحو لعبته حتى أمسك بها بأطراف أصابعه بحذر كي لا تسقط.
لم يستطع تمالك نفسه من شدة الفرح في الحصول عليها بعد عناء، راح يركض متجهاً إلى البيت ليغسلها بماء الصنبور الصافي ولكن الفرحة والدهشة منعته من وصول غايته وإعاقة تقدم خطواته السريعة في الجري.
وقف وبدون تفكير في العواقب بدأ يمسح بقميصه الأبيض الطين الأسود عن اللعبة.
وإذا باللعبة تندفع من بين يديه وضوء أبيض كالشمس أغشى ناظريه..؟!
صار الضوء ستاراً أبيض وبدأت ترسم فيه ملامح عيون محدقة به بدأت الملامح تكتمل حتى باتت واضحة له إنهم أبواه وبعض الجيران تتساقط قطرات الدموع من عيونهم المحمرة كأنها أمطار استوائية وبدون إصدار صوت وعويل لأنه المستشفى.
نظر إلى ما حوله مفتشاً عن لعبته الجديدة فأدرك الموقف أدار بنظره نحو الواقفين بجانبه وقد حملوا معهم الألعاب التي صنعت من مادة (البلاستيك المعاد) كونهم لم يجدوا زهوراً في الأسواق ولا وروداً في الحدائق فجميعها قد قطعت واحترقت ابتسم لهم ابتسامة طفل بانت أسنانه تخبرهم بالألم الممزوج بالحسرة والمنقوع بكأس التشرد مضافاً له اليتم في ظل ظروف الظلم..
(الآن قد حظيت بجميع الألعاب من بعدما أضعت يديّ)..
بدأ يبصم بيديه وقدميه الصغار الحجم على التراب الأحمر، كأنه يرسم لوحة تعبيرية قد رآها في أحلامه.
نفض يديه من التراب ومسحها بببجامته المقلمة بخطوط خضراء، داكنة والتي خيطت لعدة مرات بخيط أسود.
وقف ليلمح من بعيد أطفالاً يعرفهم وهم يلعبون ويدحرجون إطار سيارة مهترىء، ركض بسرعة نحوهم وأوقفهم طالباً منهم أن يضعوه في جوف الإطار ليدحرجوه وهو مقرفص يلملم يديه ورجليه ويضع بينهما رأسه الصغير وكان يلف ويدور مع دوران الإطار حتى بدا الغثيان يتسلل إلى رأسه.
خرج وكانت الفرحة تغمره كونه يرى البيوت العتيقة من حوله تتمايل وترقص.
كان لعبه خشناً ولا يخلو من الخطورة في بعض الأحيان ولكن ملّ العمل أراد أن يملأ وقته باللعب فهذا حال الأطفال في كل العالم.
تمنى يوماً بعد يوم أن يحظى بالألعاب والسيارات الصغيرة التي تعمل على البطارية والدراجة الهوائية الملونة ذات الجرس الصادح ولكن تحولت أمنياته الوردية إلى أحلام تهرب وتفر من عينيه عند بزوغ ضوء النهار عليها.
فالفقر لئيم والعوز القاتل فتك بعائلته حتى بات الأب المجاهد يعمل طوال النهار ولا يستطيع سد رمق الخمسة أطفال وتوفير قوت عائلته اليومي.
كانوا يلعبون في حي غابت عنه كل أوجه ومعالم الحضارة بل كان الفقر الأسود يخيم على كل الأزقة والحارات في الحي، داخلاً كل البيوت ملبساً ساكنيها أثواباً بالية كأنها آخر صيحات الموضة.
وراحت اصوات الراديو تصدح من كل مكان من الأبواب والشبابيك فالكل انغمس في آخر الأنباء لأحداث الحرب.. قصف هناك وقتلى هنا.. وحريق في الجوار.. والسفير الفلاني زار السفير فلان..
كانت كل هذه الأخبار لا تهمه ويحس بها كبيرة وقاسية على مسامعه ولا تلائم عمره وروحه الفرحة، أخذته أقدامه إلى الحديقة العامة التي أصبحت أرضاً بور تملؤها الخردوات والبرك الآسنة والوحل.
جلس يتأمل بركة بدا لون مائها أخضر من أثر الطحالب، مد غصن بيده كأنه يصيد شيئاً بدا له منها، فإذا طينها الأسود قد صبغ رأس العصا ضمها إلى جانبه محاذراً من أن توسخ ملابسه وتمعّن في البركة وإذا بشيء يلمع ويلوح له من وسط البركة.
شيء بدا له في أول وهلة أنه كرة طليت بلون أصفر وقسمها خط أحمر جميل إلى نصفين..
دار حول البركة كي يرى الشيء من جميع جوانبه.
ردد قائلاً إنها كرة.. صمت برهة ثم صاح إنها لعبة جميلة.. إنها لعبتي الجديدة.
بانت على ملامحه الصغيرة غبطة من الفرح هزت أكتافه وراح يقفز من شدة المفاجأة إنها لعبتي الجديدة.
حاول مد العصا ليطولها ولكن خاف عليها من أن تنغمس في الوحل وتضيع عليه، راح يفكر ما العمل رفع أكمام بيجامته إلى الركبتين وهمّ بالدخول في البركة ولكن خاف عقاب والده.
وكذلك هناك زجاج محطم في البركة قد يصيب أسفل قدميه ويجرحه.
تردد في التفكير وإذا بصوت المؤذن (سيد كاظم) يرفع الآذان معلناً حلول صلاة المغرب ذلك الصوت الرخيم الذي ارتبط بقلوب أهل الحي وراحوا يطربون له وينساقون نحو الجامع الذي يصدر الصوت من مئذنته البسيطة والمتكونة من براميل ركب بعضها على بعض.
كان صوت المؤذن قد أصابه بصاعقة من الارتباك، هرع من مكانه متجهاً صوب البيت.. لا بد أن يكون في هذا الوقت جالساً في البيت وقبل رجوع الأب من العمل، وقف وهمهم بصوت ضعيف (واللعبة..؟!).
ثم رد على نفسه التساؤل سوف لن يراها أحد غيري. فإن الليل قد أسدل ستاراً من الظلام.. وسوف أعود غداً باكراً لعلي أجد طريقة للوصول إليها.
دخل البيت والقلق يملؤه خشية ضياع اللعبة التي حلم بها طويلاً، غسل يديه ورجليه وصب الماء على رأسه كي يزيل ما علق بشعره من التراب.
مسح رأسه برداء لأمه كان معلقاً على الباب، وجلس في زاوية الغرفة يرمق بعينيه أمه التعبة وهي تعد العشاء مع أخواته الاثنتين.
بان على أمه الاستغراب لحالته فهو لم يكن كعادته مشاكساً حركاً واقفاً عند باب المطبخ يبكي للإسراع بتجهيز الطعام لسد جوعه المتزايد.
وعندما عاد الأب المتعب أخبرته الأم الحنون بحال ولده الغالي فراح يمسح على رأسه ويضع راحة يده على جبهته ويسأله (بني هل أنت مريض.. هل أصبت بمكروه؟).
كان الجواب بلا ولم تبد عليه علامات المرض.
بان الضوء الأصفر المنبعث من المصباح الوحيد المعلق في سقف الغرفة ثقيلاً فأثقل جفونه ليغط في نوم عميق فداعبت غزيلات أحلامه الطفولية مخيلته الخصبة باللعبة التي رآها ما ستكون؟ وهل تعمل على البطارية أم أنها.. أم... أم...!.
صحا من النوم باكراً كعادته ولكن هذه المرة يحدوه الأمل بشرب كأس من الشاي مسرعاً ورغيف الخبز حمله بيده وانطلق نحو الشارع متجهاً صوب البركة التي استقرت بوسط وحلها الأسود لعبته الجديدة، عندما وصل داهمته فكرة للوصول إليها فحمل حجارة ورماها في البركة قريباً منه وجاء بحجر آخر ورماه قريباً من الأول وهكذا بدأ يحمل الحجارة ويصفها شاقاً طريقه نحو لعبته حتى أمسك بها بأطراف أصابعه بحذر كي لا تسقط.
لم يستطع تمالك نفسه من شدة الفرح في الحصول عليها بعد عناء، راح يركض متجهاً إلى البيت ليغسلها بماء الصنبور الصافي ولكن الفرحة والدهشة منعته من وصول غايته وإعاقة تقدم خطواته السريعة في الجري.
وقف وبدون تفكير في العواقب بدأ يمسح بقميصه الأبيض الطين الأسود عن اللعبة.
وإذا باللعبة تندفع من بين يديه وضوء أبيض كالشمس أغشى ناظريه..؟!
صار الضوء ستاراً أبيض وبدأت ترسم فيه ملامح عيون محدقة به بدأت الملامح تكتمل حتى باتت واضحة له إنهم أبواه وبعض الجيران تتساقط قطرات الدموع من عيونهم المحمرة كأنها أمطار استوائية وبدون إصدار صوت وعويل لأنه المستشفى.
نظر إلى ما حوله مفتشاً عن لعبته الجديدة فأدرك الموقف أدار بنظره نحو الواقفين بجانبه وقد حملوا معهم الألعاب التي صنعت من مادة (البلاستيك المعاد) كونهم لم يجدوا زهوراً في الأسواق ولا وروداً في الحدائق فجميعها قد قطعت واحترقت ابتسم لهم ابتسامة طفل بانت أسنانه تخبرهم بالألم الممزوج بالحسرة والمنقوع بكأس التشرد مضافاً له اليتم في ظل ظروف الظلم..
(الآن قد حظيت بجميع الألعاب من بعدما أضعت يديّ)..
تعليق