في أوائل السبعينات الميلادية وبالتحديد في 3 اغسطس 1971م عدت إلى المنزل لم
يكن على كاهلي هموم سوى إرضاء الله والوالدين وإكمال مسيرتي العلمية رحم
الله أبي وأطال في عمر والدتي كانت الرياض مدينة صغيرة نسبة كبيرة من
شوارعها ترابية لم تلبس الرداء الإسفلتي وحال دخولي إلى المنزل وإذا بأخي الكبير يقابلني
كانت ملامح الرعب تبدوا على محياه وقال لي هل سمعت الخبر قلت له وما لخطب
قال فهد صديقك الحميم قتل رجلا ً .. سألته أ أنت جاد قال نعم
كان فهد صديقي وأخي وتوأمي أكبره بسنه كان في 24
وكنت في 25 بدأت معرفتي به في الصف الأول المتوسط درسنا
المرحلة الثانوية سافرنا إلى بريطانيا ثم التحقنا في جامعة برنستاون
لدراسة الأدب الإنجليزي وفي ذلك اليوم المشئوم كنا نتمتع بإجازة نقضيها
في الوطن الغالي كنا نقتسم كل شيء الفرح والحزن والجد واللعب حتى الدواء
كنا نقتسمه من باب الاشتراك في تحديد المصير لم تكن أمريكا كما
هي الآن فقد كانت إحدى الجنان على الأرض كان أشجع مني واجرأ وتعلمت
منه أشياء كثيرة برغم إني أكبره بالعمر هو وحيد أمه وأبيه .
لم نكن في ذلك الوقت نملك سوى سيارة واحدة لعائلتنا الكبيرة التي يفوق
عددها الخمسة عشر نفسا ً من أب وأم واخوة وأخوات .
استأذنت والدي بأن آخذ السيارة لأذهب وأستطلع الخبر فرفض خوفا ً علـّي
من إشكالات قد أتعرض لها وألححت عليه ووافق ذهبت إلى والده وكان في
حوالي الخمسين من عمره، أما والدته فكانت تزيد قليلا ً عن الأربعين من عمرها
وعندما طرقت الباب أجابتني أمه لم تكن تخفي وجهها عني بحكم نشأتي
وصديقي القريبة جدا ً كانت آثار الدهشة تعتريها كما اعترت كل من
حولنا أمسكت بيديّ الاثنتين وتوسلت إلي أن أفعل شيئا ً فأخبرتها إنني
سوف أستطلع الخبر سألت عن والده قالوا لقد ذهب إلى الشرطة كان هناك بعض
الأقارب وسألتهم كيف حدث ذلك قالوا شجار بسيط تحول إلى جريمة
والمقتول هو ( فلان ) وهو في إسعاف مستشفى الشميسى الآن أعرفه رحمه الله
ليس لي به علاقة كان رجلا ً يكبرنا له زوجة وثلاثة أطفال أصغرهم عمره
سنه واحدة كان مشاكسا ً في معظم الأحيان يملك متجرا ً لا يتنازل عن حقه .
دخلت قسم الإسعاف وحاولت أن أستطلع الخبر لم يكن هناك تنظيم كما هو
الآن وتشاء الصدف أن أدخل إلى إحدى الغرف وكانت مكتبا ً وعلى أحد
الطاولات ملفان كتب على الأول ... اسم القاتل ... نعم وبهذا اللفظ وكان فهد
وعلى الثاني اسم المقتول أيقنت إن هناك خطب ٌ جلل فأحسست ثقلا
بدأ يسري في ساقـّي .
وحالا ً اتجهت إلى قسم الشرطة وجدت أبا فهد حائرا ً لا يدري ماذا يفعل
وسألت عن فهد وبعد إصرار وترجي وبعد أن أخذوا هويتي وكانت تلك الهوية
دفترا ً صغيرا ً أزرقا ً يسمى تابعية أوقفوني أمامه بيني وبينه باب
حديدي به بعض الفتحات تكفي بأن تدخل يدك ويمسكها من هو خلف هذا الباب
ليشعر بطمأنينة مؤقتة .
تسمرت عيناي بعينية لم أرمش لا أدري ما أقول فبادرني بالسؤال قائلا
هل مات فلان ؟ فوكزته بسؤالي وقلت ما لذي حصل؟ قال أردت استبدال
سلعة فرفض فدخلت إلى متجره وتلفظت عليه فصفعني ثم تناولت مفكا ً
صغيرا ً وضربته في صدره لا لأقتله ... ولكن لأنتقم للصفعة وأعاد علـّي
السؤال هل مات ؟ قلت وبكل صعوبة (نعم) قال لا أصدق قلت ليس وقت
التصديق الآن دعني أذهب لأقف مع أهله ونحاول أن نصل إلى شيء إيجابي
وقبل أن أودعه سألته هل تريد شيئا ً ؟ قال أمي وأبي أمانة في عنقك
فقلت له وهل توصيني بأمي وأبي يا فهد لا عليك سوف أطلب منهم الإكثار من الدعاء
وأخبر والدتك بأنك بصحة جيدة وسوف نحاول إعادتك إلى المنزل .
ذهبت إلى عائلة المقتول لم أجد ترحيبا ً كان كل شخص يحاول التهرب مني
أيقنت أن الوقت ليس مناسبا ً لوجودي في اليوم التالي وفي الجامع الكبير
صلينا على القتيل وذهبنا إلى منزله لتقديم العزاء وبقيت طوال اليوم
واليومين التاليين كنا نتحدث عن كل شيء وكنت أتطرق كثيرا ً إلى قصص القضاء
والقدر وانتهت أيام العزاء فذهبت إلى والدي وطلبت منه أن يتدخل
وشرحت له القضية كان يفهمها أكثر مني رحمه الله وبدأت المساومات هم
يريدون القصاص ونحن نريد العفو كان كل يوم يمر كأنه الدهر فمصير فهد
مجهول وتدخل كبار القوم وعرضوا المبالغ فكان جوابهم دائما ً نعطيكم
ضعفها وأعيدوا لنا ابننا وهذه كلمة بحد ذاتها قاتلة .
صدر الحكم الشرعي بالقصاص من فهد على أن يؤجل حتى يبلغ الورثة
ويعاد طلب العفو نقل فهد إلى السجن العام وهو أكبر سجن بالرياض في ذلك
الوقت ووضع في عنبر الدم وهو العنبر الأحمر المخيف كيف لا وعزرائيل
يتجول داخل أروقته كيف لا ونزلائه لا يعرفون طعم النوم وخصوصا ً ليلة
الجمعة حيث يقضونها جالسين صامتين لا يقوون على إخراج الكلمة فقط
عيونهم شاخصة ويتنفسون وبلا صوت
أقترب موعد الدراسة والعودة إلى الجامعة في أمريكا كنا نذهب إلى بيروت
وثم إلى لندن وبعدها إلى نيويورك أوصيت أبي بالقضية فنهرني رحمه الله
بأن لا أوصيه على واجبا ً يقوم به ذهبت إلى هناك وجمعت كل متعلقات فهد
واحتفظت بها لأعود بها في السنة القادمة
لم تقف محاولات والده ووالدي ومحاولات الآخرين من كبار القوم وصغارهم
كل شخص يحاول ولكن الشريعة السماوية هي التي تحكم .
كانت الرسائل تصلني من والدي وكنت أكتب لفهد أوصيه بالصبر وبالأمل
لم أعد في إجازة العام 1972م محاولة مني بتقليص مدة الدراسة وفي العام
1973م عدت متخرجا ً من هناك أحمل شهادتي وثلاثة حقائب اثنتان لي
وواحدة لفهد بها متعلقاته الشخصية لا زلت أحتفظ بها حتى هذا اليوم .
وبعد خمس سنوات توفي والد فهد وهو يمنى نفسه برؤية ابنه حرا ً طليقا ً
توفي أبوه و ترك أما ً مكلومة تصارع الزمن وحيدة حطمت قلوب كل من عرفها.
انقضت السبعة عشر عاما ً وهاهم أبناء القتيل قد تجاوزوا العشرين والابن الأصغر
يتم الثامنة عشرة ونذهب إلى المحكمة ويسألهم الشيخ بعد أن أحضروا
فهدا ً وأنا ووالدي كان فهد تجاوز الأربعين من عمره وقد أطال لحيته
وبدأ الشعر الأبيض الكثيف يزاحم الشعر الأسود وبدأ العمر يزاحم المصير
سأل الشيخ الفتيان الثلاثة وكانت نظراته تتجه صوب الفتى ذو الثمانية عشر
عاما ً وهو يؤشر على فهد قائلا ً قبل سبعة عشر عاما ً هذا الرجل قتل
والدكم وصدر حكم في حينه يقضي بإنزال الحكم الشرعي علية وهو القصاص
وتلا أية القصاص قال الله تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أؤلي الألباب ) صدق الله
العظيم وأضاف الشيخ لقد تأجل الحكم لقصوركم باتخاذ قرار القصاص أو
العفو وأريد منكم الآن أن تنطقوا بما اتفقتم عليه أو اختلفتم عليه
وذكر لهم الشيخ عددا ً من قصص العفو التي حدثت داخل هذه المحكمة وسألهم
هل تعفون على من قتل والدكم أريد أن أسمع رأي كل واحد ٍ منكم على حده وصمت
الشيخ
كان من أصعب المواقف التي قد يمر بها بشر خيم السكون على المكان وكلمات
الحوقلة يتمتم بها الجميع فقال الابن الأكبر يا فضيلة الشيخ نحن
فقدنا عائلنا وواجهنا صعاب الحياة ونحن في سن مبكرة بين اليتم والحرمان
ولا نتنازل عن الحكم الإلهي بحق من قتل والدنا .
وجدت نفسي أندفع وبلا شعور وأتجه إلى أكبرهم فصدني بكل قوة وقال أرجوك
نحن نطلب حقا ً لنا أعذرنا لا نستطيع وخرجوا من مكتب الشيخ كانت
كلماتهم هذه كدوامة أدارت المكان بمن فيه أما فهد فلم يستطع الوقوف
وأنخرط بالبكاء ومثله فعل والدي وهو يمسك به ويحتضنه حتى سقط الاثنان
على كرسي حديدي صدئ داخل مكتب الشيخ لم أستطع الكلام من هول الصدمة جاء
الجنود و أخذوا فهد وهو يمسك بأبي ولم يتركه أخذوه وهو مقيدا ً بالأرجل والأيدي
بسلاسل جديدة عائدين به إلى السجن سألت الشيخ وماذا بعد أيها الشيخ
قال لي سوف ترفع للتصديق قد تأخذ شهرا ً أو تزيد .
وبعد شهرين وفي صباح يوم جمعة وإذا بمكالمة هاتفية من السجن تطلب
حضوري العاجل ذهبت مصعوقا ً لا أقوى على التفكير كل ما أريده هو أن أصل
إلى السجن وعند دخولي وجدت الضابط المناوب ولديه رجل بملابس مدنية
ويحمل دفترا ً ضخما ً ولم أنتظر حيث قال الضابط هذا هو كاتب العدل
جاء هنا وكتب فهد وصيته فقد تقرر تنفيذ الحكم اليوم ظهرا وحيث انه
أدرجك بوصيته وجب علينا إبلاغك لم أستطع أن أفتح فمي لعبرة أحبسها
على مدى 17 عاما ً فخرجت من غرفة الضابط وانزويت بعيدا وبدأت
البكاء بكيت بكاء لم تبكه النساء بكيت بكاء أشد من بكاء أمه عليه
فقد تعلقت بالأمل سبعة عشر عاما ً وهاهو يتلاشى وقد أصبح كل شيء يأخذ
مأخذ الجد .
أوصاني فهد بوالدته وأوصاني فهد بجثته بعد موته وأوصاني بالترحم عليه
وأن أبر بوالدته وأن أطلب منها أن تصفح عنه لأنه خذلها .
أصررت على مسئول السجن أن أرافقهم ووافق وركبت في مقدمة السيارة التي
بها فهد كنت لا أرى شيئا ً ولا أسمع سوى ً صوت فهد من مؤخرة السيارة
يطلب منى أن لا أنساه من الدعاء ... وأن أؤمن بالقضاء والقدر ... وأن أبر بوالدته
... رددها كثيرا ً ... كان في أسمى حالات معنوياته ... التي عرفته بها ... كان يحفظ
القرآن ... ويتلوه ... داخل السيارة .
وصلنا إلى الصفاة ... كانت بتصميمها السابق ... كان الشيخ يخطب الجمعة ... وجمهور
من البشر في كل مكان ... لا أحد يعبأ ... لأداء الصلاة ... فالموقف ... لا تشرحه
العبارة .
دخلت السيارة وسط الحشد ... وكان هناك سيارات أخرى ... من كل جهة حكومية ... وهذا
فهد في المؤخرة ... نزلت من السيارة ... وجلت ببصري ... لأستطلع المنظر ... فوقت
عيناي ... على القصـّاص ... وكان رجل ... عادي الجسم ... يمسك بسيف مذهب ... اقتربت
من السيارة التي بها فهد ... فوجدته يصلي ... ونظرت حولي ... وإذا بالقصاص يطلب من
الضابط ... أن يزوده برجلين لأنه سوف يذهب إلى الصلاة ... فذهب القصاص ... ومعه
رجلين ... بقيت واقفا ً في الشمس المحرقة ... انتهت الخطبة وانتهت الصلاة ... وأنا
لم أتحرك ... وحضر القصـّاص مرة أخرى ... وقال لهم هل هو جاهز ؟ ... قالوا نعم ...
قال لهم ... اربطوا عينية وأنزلوه .
يا إلهي شيء لا يصدق ... كل هذا يحدث أمام البصر ... وفتح الباب ... ومن سيارة
الإسعاف أحضروا ... شريطا ً لاصقا ً ... وكمية من القطن ... خلعوا عنه الغترة ...
ووضعوا القطن على عينيه وأداروا الشريط اللاصق وبطريقة عشوائية .
أجلسوا فهد على ... الأرض ... فكوا رباطه من الأرجل ... وأعادوا رباط يديه من الخلف
... وتقدم إليه ... شخص ولقنه الشهادتين ... ولما أبتعد ... بدأ أحد الرجال يقرأ
... بيان الإعدام الصادر بحق فهد ... من مكبر صوت خاص بسيارة الشرطة ... وكنت أنظر
إلى فهد ... وبعد ثواني من بداية قراءة البيان ... رأيت القصـّاص ... يأتي من خلف
فهد .ويرفع السيف ... فأدرت ظهري وأغمضت عينيّ... وسمعت صوت صدور الجماهير المحتشدة
... بزفير واحد ... فأيقنت أن فهدا ً قد مات فأسرعت إلى سيارة السجن وفتحت الباب
الخلفي ... وأخذت غترة فهد ... وبدأت أشمها ببكاء كبكاء الطفل .
عدت تعيسا ً إلى المنزل ... وعم الحزن البيت كله وأفراده ... وأحضرنا والدة فهد ...
وبقيت معنا ... في منزلنا ... كوالدة أخرى لنا ... نتقبل التعازي ... بما أصابنا
وأصابها ... ونونس وحدتها ... حتى وافاها الأجل المكتوب ... في رمضان 1420هـ .
رحمها الله ... ورحم فهد ... ورحم أموات المسلمين ...................
فـــــلـــــتوووووووا:74:
يكن على كاهلي هموم سوى إرضاء الله والوالدين وإكمال مسيرتي العلمية رحم
الله أبي وأطال في عمر والدتي كانت الرياض مدينة صغيرة نسبة كبيرة من
شوارعها ترابية لم تلبس الرداء الإسفلتي وحال دخولي إلى المنزل وإذا بأخي الكبير يقابلني
كانت ملامح الرعب تبدوا على محياه وقال لي هل سمعت الخبر قلت له وما لخطب
قال فهد صديقك الحميم قتل رجلا ً .. سألته أ أنت جاد قال نعم
كان فهد صديقي وأخي وتوأمي أكبره بسنه كان في 24
وكنت في 25 بدأت معرفتي به في الصف الأول المتوسط درسنا
المرحلة الثانوية سافرنا إلى بريطانيا ثم التحقنا في جامعة برنستاون
لدراسة الأدب الإنجليزي وفي ذلك اليوم المشئوم كنا نتمتع بإجازة نقضيها
في الوطن الغالي كنا نقتسم كل شيء الفرح والحزن والجد واللعب حتى الدواء
كنا نقتسمه من باب الاشتراك في تحديد المصير لم تكن أمريكا كما
هي الآن فقد كانت إحدى الجنان على الأرض كان أشجع مني واجرأ وتعلمت
منه أشياء كثيرة برغم إني أكبره بالعمر هو وحيد أمه وأبيه .
لم نكن في ذلك الوقت نملك سوى سيارة واحدة لعائلتنا الكبيرة التي يفوق
عددها الخمسة عشر نفسا ً من أب وأم واخوة وأخوات .
استأذنت والدي بأن آخذ السيارة لأذهب وأستطلع الخبر فرفض خوفا ً علـّي
من إشكالات قد أتعرض لها وألححت عليه ووافق ذهبت إلى والده وكان في
حوالي الخمسين من عمره، أما والدته فكانت تزيد قليلا ً عن الأربعين من عمرها
وعندما طرقت الباب أجابتني أمه لم تكن تخفي وجهها عني بحكم نشأتي
وصديقي القريبة جدا ً كانت آثار الدهشة تعتريها كما اعترت كل من
حولنا أمسكت بيديّ الاثنتين وتوسلت إلي أن أفعل شيئا ً فأخبرتها إنني
سوف أستطلع الخبر سألت عن والده قالوا لقد ذهب إلى الشرطة كان هناك بعض
الأقارب وسألتهم كيف حدث ذلك قالوا شجار بسيط تحول إلى جريمة
والمقتول هو ( فلان ) وهو في إسعاف مستشفى الشميسى الآن أعرفه رحمه الله
ليس لي به علاقة كان رجلا ً يكبرنا له زوجة وثلاثة أطفال أصغرهم عمره
سنه واحدة كان مشاكسا ً في معظم الأحيان يملك متجرا ً لا يتنازل عن حقه .
دخلت قسم الإسعاف وحاولت أن أستطلع الخبر لم يكن هناك تنظيم كما هو
الآن وتشاء الصدف أن أدخل إلى إحدى الغرف وكانت مكتبا ً وعلى أحد
الطاولات ملفان كتب على الأول ... اسم القاتل ... نعم وبهذا اللفظ وكان فهد
وعلى الثاني اسم المقتول أيقنت إن هناك خطب ٌ جلل فأحسست ثقلا
بدأ يسري في ساقـّي .
وحالا ً اتجهت إلى قسم الشرطة وجدت أبا فهد حائرا ً لا يدري ماذا يفعل
وسألت عن فهد وبعد إصرار وترجي وبعد أن أخذوا هويتي وكانت تلك الهوية
دفترا ً صغيرا ً أزرقا ً يسمى تابعية أوقفوني أمامه بيني وبينه باب
حديدي به بعض الفتحات تكفي بأن تدخل يدك ويمسكها من هو خلف هذا الباب
ليشعر بطمأنينة مؤقتة .
تسمرت عيناي بعينية لم أرمش لا أدري ما أقول فبادرني بالسؤال قائلا
هل مات فلان ؟ فوكزته بسؤالي وقلت ما لذي حصل؟ قال أردت استبدال
سلعة فرفض فدخلت إلى متجره وتلفظت عليه فصفعني ثم تناولت مفكا ً
صغيرا ً وضربته في صدره لا لأقتله ... ولكن لأنتقم للصفعة وأعاد علـّي
السؤال هل مات ؟ قلت وبكل صعوبة (نعم) قال لا أصدق قلت ليس وقت
التصديق الآن دعني أذهب لأقف مع أهله ونحاول أن نصل إلى شيء إيجابي
وقبل أن أودعه سألته هل تريد شيئا ً ؟ قال أمي وأبي أمانة في عنقك
فقلت له وهل توصيني بأمي وأبي يا فهد لا عليك سوف أطلب منهم الإكثار من الدعاء
وأخبر والدتك بأنك بصحة جيدة وسوف نحاول إعادتك إلى المنزل .
ذهبت إلى عائلة المقتول لم أجد ترحيبا ً كان كل شخص يحاول التهرب مني
أيقنت أن الوقت ليس مناسبا ً لوجودي في اليوم التالي وفي الجامع الكبير
صلينا على القتيل وذهبنا إلى منزله لتقديم العزاء وبقيت طوال اليوم
واليومين التاليين كنا نتحدث عن كل شيء وكنت أتطرق كثيرا ً إلى قصص القضاء
والقدر وانتهت أيام العزاء فذهبت إلى والدي وطلبت منه أن يتدخل
وشرحت له القضية كان يفهمها أكثر مني رحمه الله وبدأت المساومات هم
يريدون القصاص ونحن نريد العفو كان كل يوم يمر كأنه الدهر فمصير فهد
مجهول وتدخل كبار القوم وعرضوا المبالغ فكان جوابهم دائما ً نعطيكم
ضعفها وأعيدوا لنا ابننا وهذه كلمة بحد ذاتها قاتلة .
صدر الحكم الشرعي بالقصاص من فهد على أن يؤجل حتى يبلغ الورثة
ويعاد طلب العفو نقل فهد إلى السجن العام وهو أكبر سجن بالرياض في ذلك
الوقت ووضع في عنبر الدم وهو العنبر الأحمر المخيف كيف لا وعزرائيل
يتجول داخل أروقته كيف لا ونزلائه لا يعرفون طعم النوم وخصوصا ً ليلة
الجمعة حيث يقضونها جالسين صامتين لا يقوون على إخراج الكلمة فقط
عيونهم شاخصة ويتنفسون وبلا صوت
أقترب موعد الدراسة والعودة إلى الجامعة في أمريكا كنا نذهب إلى بيروت
وثم إلى لندن وبعدها إلى نيويورك أوصيت أبي بالقضية فنهرني رحمه الله
بأن لا أوصيه على واجبا ً يقوم به ذهبت إلى هناك وجمعت كل متعلقات فهد
واحتفظت بها لأعود بها في السنة القادمة
لم تقف محاولات والده ووالدي ومحاولات الآخرين من كبار القوم وصغارهم
كل شخص يحاول ولكن الشريعة السماوية هي التي تحكم .
كانت الرسائل تصلني من والدي وكنت أكتب لفهد أوصيه بالصبر وبالأمل
لم أعد في إجازة العام 1972م محاولة مني بتقليص مدة الدراسة وفي العام
1973م عدت متخرجا ً من هناك أحمل شهادتي وثلاثة حقائب اثنتان لي
وواحدة لفهد بها متعلقاته الشخصية لا زلت أحتفظ بها حتى هذا اليوم .
وبعد خمس سنوات توفي والد فهد وهو يمنى نفسه برؤية ابنه حرا ً طليقا ً
توفي أبوه و ترك أما ً مكلومة تصارع الزمن وحيدة حطمت قلوب كل من عرفها.
انقضت السبعة عشر عاما ً وهاهم أبناء القتيل قد تجاوزوا العشرين والابن الأصغر
يتم الثامنة عشرة ونذهب إلى المحكمة ويسألهم الشيخ بعد أن أحضروا
فهدا ً وأنا ووالدي كان فهد تجاوز الأربعين من عمره وقد أطال لحيته
وبدأ الشعر الأبيض الكثيف يزاحم الشعر الأسود وبدأ العمر يزاحم المصير
سأل الشيخ الفتيان الثلاثة وكانت نظراته تتجه صوب الفتى ذو الثمانية عشر
عاما ً وهو يؤشر على فهد قائلا ً قبل سبعة عشر عاما ً هذا الرجل قتل
والدكم وصدر حكم في حينه يقضي بإنزال الحكم الشرعي علية وهو القصاص
وتلا أية القصاص قال الله تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أؤلي الألباب ) صدق الله
العظيم وأضاف الشيخ لقد تأجل الحكم لقصوركم باتخاذ قرار القصاص أو
العفو وأريد منكم الآن أن تنطقوا بما اتفقتم عليه أو اختلفتم عليه
وذكر لهم الشيخ عددا ً من قصص العفو التي حدثت داخل هذه المحكمة وسألهم
هل تعفون على من قتل والدكم أريد أن أسمع رأي كل واحد ٍ منكم على حده وصمت
الشيخ
كان من أصعب المواقف التي قد يمر بها بشر خيم السكون على المكان وكلمات
الحوقلة يتمتم بها الجميع فقال الابن الأكبر يا فضيلة الشيخ نحن
فقدنا عائلنا وواجهنا صعاب الحياة ونحن في سن مبكرة بين اليتم والحرمان
ولا نتنازل عن الحكم الإلهي بحق من قتل والدنا .
وجدت نفسي أندفع وبلا شعور وأتجه إلى أكبرهم فصدني بكل قوة وقال أرجوك
نحن نطلب حقا ً لنا أعذرنا لا نستطيع وخرجوا من مكتب الشيخ كانت
كلماتهم هذه كدوامة أدارت المكان بمن فيه أما فهد فلم يستطع الوقوف
وأنخرط بالبكاء ومثله فعل والدي وهو يمسك به ويحتضنه حتى سقط الاثنان
على كرسي حديدي صدئ داخل مكتب الشيخ لم أستطع الكلام من هول الصدمة جاء
الجنود و أخذوا فهد وهو يمسك بأبي ولم يتركه أخذوه وهو مقيدا ً بالأرجل والأيدي
بسلاسل جديدة عائدين به إلى السجن سألت الشيخ وماذا بعد أيها الشيخ
قال لي سوف ترفع للتصديق قد تأخذ شهرا ً أو تزيد .
وبعد شهرين وفي صباح يوم جمعة وإذا بمكالمة هاتفية من السجن تطلب
حضوري العاجل ذهبت مصعوقا ً لا أقوى على التفكير كل ما أريده هو أن أصل
إلى السجن وعند دخولي وجدت الضابط المناوب ولديه رجل بملابس مدنية
ويحمل دفترا ً ضخما ً ولم أنتظر حيث قال الضابط هذا هو كاتب العدل
جاء هنا وكتب فهد وصيته فقد تقرر تنفيذ الحكم اليوم ظهرا وحيث انه
أدرجك بوصيته وجب علينا إبلاغك لم أستطع أن أفتح فمي لعبرة أحبسها
على مدى 17 عاما ً فخرجت من غرفة الضابط وانزويت بعيدا وبدأت
البكاء بكيت بكاء لم تبكه النساء بكيت بكاء أشد من بكاء أمه عليه
فقد تعلقت بالأمل سبعة عشر عاما ً وهاهو يتلاشى وقد أصبح كل شيء يأخذ
مأخذ الجد .
أوصاني فهد بوالدته وأوصاني فهد بجثته بعد موته وأوصاني بالترحم عليه
وأن أبر بوالدته وأن أطلب منها أن تصفح عنه لأنه خذلها .
أصررت على مسئول السجن أن أرافقهم ووافق وركبت في مقدمة السيارة التي
بها فهد كنت لا أرى شيئا ً ولا أسمع سوى ً صوت فهد من مؤخرة السيارة
يطلب منى أن لا أنساه من الدعاء ... وأن أؤمن بالقضاء والقدر ... وأن أبر بوالدته
... رددها كثيرا ً ... كان في أسمى حالات معنوياته ... التي عرفته بها ... كان يحفظ
القرآن ... ويتلوه ... داخل السيارة .
وصلنا إلى الصفاة ... كانت بتصميمها السابق ... كان الشيخ يخطب الجمعة ... وجمهور
من البشر في كل مكان ... لا أحد يعبأ ... لأداء الصلاة ... فالموقف ... لا تشرحه
العبارة .
دخلت السيارة وسط الحشد ... وكان هناك سيارات أخرى ... من كل جهة حكومية ... وهذا
فهد في المؤخرة ... نزلت من السيارة ... وجلت ببصري ... لأستطلع المنظر ... فوقت
عيناي ... على القصـّاص ... وكان رجل ... عادي الجسم ... يمسك بسيف مذهب ... اقتربت
من السيارة التي بها فهد ... فوجدته يصلي ... ونظرت حولي ... وإذا بالقصاص يطلب من
الضابط ... أن يزوده برجلين لأنه سوف يذهب إلى الصلاة ... فذهب القصاص ... ومعه
رجلين ... بقيت واقفا ً في الشمس المحرقة ... انتهت الخطبة وانتهت الصلاة ... وأنا
لم أتحرك ... وحضر القصـّاص مرة أخرى ... وقال لهم هل هو جاهز ؟ ... قالوا نعم ...
قال لهم ... اربطوا عينية وأنزلوه .
يا إلهي شيء لا يصدق ... كل هذا يحدث أمام البصر ... وفتح الباب ... ومن سيارة
الإسعاف أحضروا ... شريطا ً لاصقا ً ... وكمية من القطن ... خلعوا عنه الغترة ...
ووضعوا القطن على عينيه وأداروا الشريط اللاصق وبطريقة عشوائية .
أجلسوا فهد على ... الأرض ... فكوا رباطه من الأرجل ... وأعادوا رباط يديه من الخلف
... وتقدم إليه ... شخص ولقنه الشهادتين ... ولما أبتعد ... بدأ أحد الرجال يقرأ
... بيان الإعدام الصادر بحق فهد ... من مكبر صوت خاص بسيارة الشرطة ... وكنت أنظر
إلى فهد ... وبعد ثواني من بداية قراءة البيان ... رأيت القصـّاص ... يأتي من خلف
فهد .ويرفع السيف ... فأدرت ظهري وأغمضت عينيّ... وسمعت صوت صدور الجماهير المحتشدة
... بزفير واحد ... فأيقنت أن فهدا ً قد مات فأسرعت إلى سيارة السجن وفتحت الباب
الخلفي ... وأخذت غترة فهد ... وبدأت أشمها ببكاء كبكاء الطفل .
عدت تعيسا ً إلى المنزل ... وعم الحزن البيت كله وأفراده ... وأحضرنا والدة فهد ...
وبقيت معنا ... في منزلنا ... كوالدة أخرى لنا ... نتقبل التعازي ... بما أصابنا
وأصابها ... ونونس وحدتها ... حتى وافاها الأجل المكتوب ... في رمضان 1420هـ .
رحمها الله ... ورحم فهد ... ورحم أموات المسلمين ...................
فـــــلـــــتوووووووا:74:
تعليق