قصة قرأتها وأحببت أن أنقلها لكم .. عبرة .. لنقرأها سوياً ولندعو لصاحبة القصة بالرحمة والمغفرة..
للحياة وجه آخر قبيح .. يشبه الموت .. يتجرع البعض منا مرارة النظر إليه ليل نهار.. والبعض الآخر ما زال يعتقد أن الحكايات المرسومة على تجاعيد هذا الوجه القبيح .. مجرد اساطير وخيالات يرويها البعض ليشوهوا بها وجه الحياة الجميل ..
وبين هؤلاء .. وأولئك .. مسافات شاسعة من الألم .. والوجع .. والحزن.. والمرارة .. والموت ..
" ف . م " شابة في السابعة والعشرين من العمر , لا يشكل الربيع في واقعها سوى تعبير عن المرحلة العمرية التي تحياها, وباقي ملامحها الحقيقة ترسم خريفاً قاتم الملامح, جسدها المتهالك فوق سرير المستشفى حيث هي راقدة منذو اسبوعين يتعلق بأطراف أنبوب رفيع يمتد من داخل فمها حتى جهاز التنفس الاصطناعي مستجدياً عبره زخات من الهواء النقي والذي لم تعد رئتاها قادرتان على توفيره لها ..
من داخل عينيها تشع نظرة فزعة في قوة تتناقض والضعف الذي يلف باقي جسدها.
" أن ترسم حدود الحياة ونهاياتها بهذه الصورة المرعبة لهو أمر بالغ الصعوبة , لم أكن متيقنة وأنا أتجه نحوها .. مما يمكن أن يقال أو يحدث في لقائي معها "..
حين أتجهت نحوها في محاولة الحديث معها أشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى في الغرفة ..
هي سيدة كبيرة في السن, ملامح الأسى والتعب تكسو وجهها الأسمر, قالت لي أن أبنتها لا تقوى على الكلام .. فسألتها:
كيف هي حالتها الصحيه الآن؟
بخير والحمد لله ..لكنها لا تستطيع الأكل أبداً .. وهي تعيش على السوائل فقط وهذا يضعفها جداً..
وماذا قال لك الأطباء عن حالتها؟
قالوا لي أنها مصابة بألتهاب رئوي حاد .. أو سل لا أعرف بالضبط ..أو درن بالرئة .. هكذا يقولون لنا ..
وما هو سبب دخولها المستشفى ؟ هل أشتكت من شيء معين ؟
نعم .. فهي تشكو من آلام شديدة في صدرها .. وكحة " سعال شديد " من مدة..
كم مضى لها على هذه الحال ؟
من رمضان الماضي تقريباً " أي منذ ما يقارب الخمسة أشهر "
هل عرضتموها على الطبيب من قبل ؟
نعم ..كانت كلما أشتكت من الآلام نأخذها للطبيب في منطقتنا .. فيصف لها الدواء .. ويقول أنها تعاني من ألتهاب في الصدر أو إنفلونزا .
هنا توقفت الأم عن الحديث وسألتني في نبرة استجداء " أيش قالوا لك الدكاترة ؟ " " أيش عندها ؟ " .. ودهشت لأنني لم أكن متأكدة من علم الأم بحقيقة مرض ابنتها وفي حيرة لم استطيع اجابتها بغير " أن شاء الله خير .. يا خالة .. ادعي لها " .
وسألتها من جديد :
كم عدد ابنائك يا خالة ؟
قالت ك ست بنات وتسعة أولاد .. توفي بعضهم والبعض الآخر متزوجون..
وهل والدهم على قيد الحياة ؟
لا .. لقد توفي منذ زمن طويل .
وما هو ترتيب " ف " في أبنائك ؟
هي الوسطى .. تقريباً .
وهل أكملت دراستها ؟
نعم .. وقد تعينت منذ سنه كمعلمة في مدرسة ثانوية ..
وهنا عقبت الأم وعينها على ابنتها .. المسكينة لطالما كانت تعيلني وإخوتها وتعاونني على تكاليف الحياة , حتى قبل وظيفتها في المدرسة كانت تعمل في وظائف مؤقتة وتعينني..
ثم استاذنت من الأم واقتربت من سرير ابنتها مرة أخرى ..
وهمست لها سائلة " هل تعرفين حقيقة مرضك ؟ " ..
فهزت رأسها إيجاباً ..
ثم وضعت يدي فوق يدها الملقاة على طرف السرير بجانبها .. وربت بيدي الأخرى في محاولة مني لطمأنتها كي تتقبل الحديث معي ..
وسرعان ما أبدت تجاوباً معي بإشارة منها لوالدتها ..
فهمت منها أنها تريد قلما كي تجيبني كتابةً , فهي غير قادرة على الكلام .. وعندها بدأنا أنا وهي نتجاذب أطراف السطور.
هل أنت متزوجة ؟
أومأت نفياً..
متى اكتشفت أنك مصابة بالإيدز؟
منذ سنتين .. عندما توفي " ولد خالتي " ..
هل كان مصاباً ؟
أومأت إيجاباً..
وكيف أصيب بالعدوى ؟
أشارت بيدها " توشيحاً في الهواء " ..
فسألتها :
هل كان يسافر ؟
أجابت بإيماءة إيجاب مرة أخرى .
هل كنت على علاقة غير شرعية معه
؟
أومأت إيجاباً أيضاً .
وكيف تأكدت من أنتقال العدوى لك ؟
بأحساسي فقط .. شككت بعد أن علمت بإصابته بالمرض وبعد أن توفي ..
هل صارحت أحد من أهلك ؟
زوج أختي الكبيرة .. لأنه رباني .
هل أخبر احداً من العائلة؟
أجابت نفياً..
ثم سألتني " كاتبة " هل علم أحد من أخوتي ؟
أجبتها بأني لا أعلم .
سألتها , بعد أن فتحت عينيها من إغماضة لثواني. ربما كي تستجمع تلك القوة داخلها لتستمر في حديثها معي .. وسألتها:
هل أنت نادمة؟
أغمضت عينيها مرة أخرى .. وأومأت برأسها إيجاباً .
" ربت على رأسها ففتحت عينيها من جديد " ..
فسألتها :
هل أنت خائفة؟
هزت رأسها إيجاباً وأشارت نحو والدتها ..
هل تخافين منها؟
أومأت نفياً ..
هل تخافين عليها ؟
أغرورقت عيناها وألتمعت بدموع داخلها..
ما هو إحساسك الآن ؟
" لم تجب بشيء" .
ما هو إحساسك , كيف تتخيلين مستقبلك بعد الآن ؟
فكتبت " مستقبلي طويل أن شاء الله لأنني أساعد أمي " ..
إلة هنا توقفنا عن الحوار على إثر طرقات على الباب وكانوا إخوتها في زيارة لها وما أن دخلوا إلى الغرفة ,وهممت بالإستئذان منصرفة , استوقفتني يد " ف " تضغط على يدي وأشارت إلى أن أعود إلى زيارتها مرة أخرى غداً .. وسألتها :
هل آتي في مثل هذا الوقت ؟
فأشارت لي " لا " قبله ..
ولكن يبدو أن " ف " الفتاة الشابة, والتي كانت تمتليء مرحاً وحيوية في الماضي " بشهادة إخوتها " والتي كانت تقبل على الحياة باندفاع فرحاً , والتي كانت موعودة بمستقبل عملي مشرق , والتي كنت على موعد للقاء معها في اليوم التالي قد كانت على موعد مسبق مع غيري ..
حضرت إلى المستشفى .. وطرقت باب غرفتها .. ولكن أحداً لم يجب .. تذكرت أنها لا تقوى على الكلام .. فتحت الباب ..
ودخلت .. ولكن سريرها الأبيض كان فارغاً ومتوشحاً بالسواد ..
وقفت مشدوهة للحظة .. لم أدر ِ هل توشح سريرها بالسواد حزناً على فراقها .. أم أنه الحزن الذي سمرني مكاني دون حراك ..
أنتابني شعور خانق بأن القدر قد سبقني إلي جسدها النحيل ..
وروحها المسكونة بالأمل ..
صمت رهيب ملأ المكان .. حتى شعرت بنبض قلبها الذي ربما هو يدق في جوارحي من البارحة ..
فجأة .. توقف النبض .. فانتبهت ..
استرجعت نفسي .. تنهدت بعنف ..وقلت بصوت عال ٍ : لا ... ربما لم تمت .. كيف ؟ .. لقد تواعدنا على اللقاء ..
همست لنفسي : استغفر الله العظيم ..
استدرت بسرعة ..وتوجهت إلى " كاونتر " الممرضات على الفور..
سألت الممرضة أين " ف " ؟
وقبل أن تجيب على سؤالي: كانت عشرات الإجابات الصامتة تهمس في روحي : لقد نقلناها إلى غرفة أخرى .. أخذتها الممرضة لتستحم . في دورة المياه .. في غرفة الأشعة .. وفجأة قاطعني صوت الممرضة تسألني :
هل أنت قريبتها؟
كأنما كانت الممرضة في بلد بعيد .. وكأنما هبطت لتوي أمامها من اللا مكان .. ومن فراغ سحيق ... وكأنما سؤالها يهز كتفي ليوقظني من سبات عميق ..
قلت لها " هاه .. أنا .. ؟؟ لا لا .. أنا صديقتها نور "..
فقالت : منذ أن حضرت " ف " إلينا .. لم تتكلم أبداً .. اليوم فقط .. سألت عنك في الصباح كثيراً .. وطلبت منا أن نتصل بك أن كنا نعرف رقم هاتفك .. كانت تريد أن تراك بشدة .. اعتذرنا لها لأننا لا نعرف طريقة للاتصال بك وأنك لم تتركي رقم هاتفك عندنا بالأمس .. وقد طلبت منا أن نبلغك رسالة منها..
فقلت لها : ما هي ؟.
قالت : " تقول لك : أرجوك لا تخبري أمي !! " .. وأنك إذا جئت ولم تجديها .. فإنها تعتذر لأنها أخلفت موعدها معك !!
وأنها قد حاولت الاتصال بك لتقديم الموعد لأنها تشعر بأن بعد الظهر متأخر جداً !! " .
واليوم قبل الظهر ماتت !!
لم أسمع من كل حواري مع الممرضة سوى هذه الكلمة " ماتت " .. توقف كل شيء .. لم أبك كما بكيت لحظتها ..لم أحزن كما حزنت على رحيلها .. لم أحرص على موعد .. كما حرصت على موعدي معها .. لكنها اعتذرت .. لم ترحل في صمت .. تكلمت قبل رحيلها الأخير .. لم تنشأ أن تشوه حزن أمها عليها .. لم ترد لهذا الفيروس اللعين أن يغتال طهارة بكائها على فلذة كبدها .. وسندها .. وعائلها في هذه الحياة ..
لم ترد جرح كبريائها الذي عاش مفتخراً بتربية ابنتها التي كانت تراها بمائة رجل .. وبألف أمل .. وبمليون رجاء في أن تعود ..
" ماتت " .. ولم ترد أن تدنس كبرياء حزن أمها التي لم يحن هامتها الزمن المر بـ " خطيئة " .. بفاجعة دنست جسد ابنتها الطاهر بماء خطأ .. بماء غير شرعي ..
ماء خلقه الله ليهب الحياة .. فوهب ابنتها الموت ...
" ماتت " .. وأرادت لقلب أمها المكلوم أن يأخذ فيها عزاءً طاهراً .. في عالم لا عزاء فيه للخاطئات .. ولا كفن يستر الخطيئة ..
"ماتت " .. قبل أن تخبرني بكل ما في نفسها .. ماذا كانت تريد أن تقول لي ... اعتذار للحياة ؟!! أعتذار لروحها؟!! أعتذار لكل شيء ؟!!
أم ماذا ..؟! سؤال لن أجد له أجابة أبداً..
أعدك يا " ف " ..بأنني سأحزن لك دائماً .. وسأدعو لك دائماً بأن يغفر الله لك .. وأن يكون ما أصابك في الدنيا قد طهر جسدك الغض .. لتكون روحك طاهرة في الآخرة .. وحرة من الذنب ..
أعدك يا " ف " بأن يكون لقائي القصير معك .. رسالة لكل فتاة تسلم روحها لشيطان .. وجسدها للذئاب ..
أعدك يا " ف " .. أنني لن أخبر أمك ..
نساء الزمن المر
بألم : نور محمود
مجلة رؤى العدد الأول
منقوووووووول
للحياة وجه آخر قبيح .. يشبه الموت .. يتجرع البعض منا مرارة النظر إليه ليل نهار.. والبعض الآخر ما زال يعتقد أن الحكايات المرسومة على تجاعيد هذا الوجه القبيح .. مجرد اساطير وخيالات يرويها البعض ليشوهوا بها وجه الحياة الجميل ..
وبين هؤلاء .. وأولئك .. مسافات شاسعة من الألم .. والوجع .. والحزن.. والمرارة .. والموت ..
" ف . م " شابة في السابعة والعشرين من العمر , لا يشكل الربيع في واقعها سوى تعبير عن المرحلة العمرية التي تحياها, وباقي ملامحها الحقيقة ترسم خريفاً قاتم الملامح, جسدها المتهالك فوق سرير المستشفى حيث هي راقدة منذو اسبوعين يتعلق بأطراف أنبوب رفيع يمتد من داخل فمها حتى جهاز التنفس الاصطناعي مستجدياً عبره زخات من الهواء النقي والذي لم تعد رئتاها قادرتان على توفيره لها ..
من داخل عينيها تشع نظرة فزعة في قوة تتناقض والضعف الذي يلف باقي جسدها.
" أن ترسم حدود الحياة ونهاياتها بهذه الصورة المرعبة لهو أمر بالغ الصعوبة , لم أكن متيقنة وأنا أتجه نحوها .. مما يمكن أن يقال أو يحدث في لقائي معها "..
حين أتجهت نحوها في محاولة الحديث معها أشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى في الغرفة ..
هي سيدة كبيرة في السن, ملامح الأسى والتعب تكسو وجهها الأسمر, قالت لي أن أبنتها لا تقوى على الكلام .. فسألتها:
كيف هي حالتها الصحيه الآن؟
بخير والحمد لله ..لكنها لا تستطيع الأكل أبداً .. وهي تعيش على السوائل فقط وهذا يضعفها جداً..
وماذا قال لك الأطباء عن حالتها؟
قالوا لي أنها مصابة بألتهاب رئوي حاد .. أو سل لا أعرف بالضبط ..أو درن بالرئة .. هكذا يقولون لنا ..
وما هو سبب دخولها المستشفى ؟ هل أشتكت من شيء معين ؟
نعم .. فهي تشكو من آلام شديدة في صدرها .. وكحة " سعال شديد " من مدة..
كم مضى لها على هذه الحال ؟
من رمضان الماضي تقريباً " أي منذ ما يقارب الخمسة أشهر "
هل عرضتموها على الطبيب من قبل ؟
نعم ..كانت كلما أشتكت من الآلام نأخذها للطبيب في منطقتنا .. فيصف لها الدواء .. ويقول أنها تعاني من ألتهاب في الصدر أو إنفلونزا .
هنا توقفت الأم عن الحديث وسألتني في نبرة استجداء " أيش قالوا لك الدكاترة ؟ " " أيش عندها ؟ " .. ودهشت لأنني لم أكن متأكدة من علم الأم بحقيقة مرض ابنتها وفي حيرة لم استطيع اجابتها بغير " أن شاء الله خير .. يا خالة .. ادعي لها " .
وسألتها من جديد :
كم عدد ابنائك يا خالة ؟
قالت ك ست بنات وتسعة أولاد .. توفي بعضهم والبعض الآخر متزوجون..
وهل والدهم على قيد الحياة ؟
لا .. لقد توفي منذ زمن طويل .
وما هو ترتيب " ف " في أبنائك ؟
هي الوسطى .. تقريباً .
وهل أكملت دراستها ؟
نعم .. وقد تعينت منذ سنه كمعلمة في مدرسة ثانوية ..
وهنا عقبت الأم وعينها على ابنتها .. المسكينة لطالما كانت تعيلني وإخوتها وتعاونني على تكاليف الحياة , حتى قبل وظيفتها في المدرسة كانت تعمل في وظائف مؤقتة وتعينني..
ثم استاذنت من الأم واقتربت من سرير ابنتها مرة أخرى ..
وهمست لها سائلة " هل تعرفين حقيقة مرضك ؟ " ..
فهزت رأسها إيجاباً ..
ثم وضعت يدي فوق يدها الملقاة على طرف السرير بجانبها .. وربت بيدي الأخرى في محاولة مني لطمأنتها كي تتقبل الحديث معي ..
وسرعان ما أبدت تجاوباً معي بإشارة منها لوالدتها ..
فهمت منها أنها تريد قلما كي تجيبني كتابةً , فهي غير قادرة على الكلام .. وعندها بدأنا أنا وهي نتجاذب أطراف السطور.
هل أنت متزوجة ؟
أومأت نفياً..
متى اكتشفت أنك مصابة بالإيدز؟
منذ سنتين .. عندما توفي " ولد خالتي " ..
هل كان مصاباً ؟
أومأت إيجاباً..
وكيف أصيب بالعدوى ؟
أشارت بيدها " توشيحاً في الهواء " ..
فسألتها :
هل كان يسافر ؟
أجابت بإيماءة إيجاب مرة أخرى .
هل كنت على علاقة غير شرعية معه
؟
أومأت إيجاباً أيضاً .
وكيف تأكدت من أنتقال العدوى لك ؟
بأحساسي فقط .. شككت بعد أن علمت بإصابته بالمرض وبعد أن توفي ..
هل صارحت أحد من أهلك ؟
زوج أختي الكبيرة .. لأنه رباني .
هل أخبر احداً من العائلة؟
أجابت نفياً..
ثم سألتني " كاتبة " هل علم أحد من أخوتي ؟
أجبتها بأني لا أعلم .
سألتها , بعد أن فتحت عينيها من إغماضة لثواني. ربما كي تستجمع تلك القوة داخلها لتستمر في حديثها معي .. وسألتها:
هل أنت نادمة؟
أغمضت عينيها مرة أخرى .. وأومأت برأسها إيجاباً .
" ربت على رأسها ففتحت عينيها من جديد " ..
فسألتها :
هل أنت خائفة؟
هزت رأسها إيجاباً وأشارت نحو والدتها ..
هل تخافين منها؟
أومأت نفياً ..
هل تخافين عليها ؟
أغرورقت عيناها وألتمعت بدموع داخلها..
ما هو إحساسك الآن ؟
" لم تجب بشيء" .
ما هو إحساسك , كيف تتخيلين مستقبلك بعد الآن ؟
فكتبت " مستقبلي طويل أن شاء الله لأنني أساعد أمي " ..
إلة هنا توقفنا عن الحوار على إثر طرقات على الباب وكانوا إخوتها في زيارة لها وما أن دخلوا إلى الغرفة ,وهممت بالإستئذان منصرفة , استوقفتني يد " ف " تضغط على يدي وأشارت إلى أن أعود إلى زيارتها مرة أخرى غداً .. وسألتها :
هل آتي في مثل هذا الوقت ؟
فأشارت لي " لا " قبله ..
ولكن يبدو أن " ف " الفتاة الشابة, والتي كانت تمتليء مرحاً وحيوية في الماضي " بشهادة إخوتها " والتي كانت تقبل على الحياة باندفاع فرحاً , والتي كانت موعودة بمستقبل عملي مشرق , والتي كنت على موعد للقاء معها في اليوم التالي قد كانت على موعد مسبق مع غيري ..
حضرت إلى المستشفى .. وطرقت باب غرفتها .. ولكن أحداً لم يجب .. تذكرت أنها لا تقوى على الكلام .. فتحت الباب ..
ودخلت .. ولكن سريرها الأبيض كان فارغاً ومتوشحاً بالسواد ..
وقفت مشدوهة للحظة .. لم أدر ِ هل توشح سريرها بالسواد حزناً على فراقها .. أم أنه الحزن الذي سمرني مكاني دون حراك ..
أنتابني شعور خانق بأن القدر قد سبقني إلي جسدها النحيل ..
وروحها المسكونة بالأمل ..
صمت رهيب ملأ المكان .. حتى شعرت بنبض قلبها الذي ربما هو يدق في جوارحي من البارحة ..
فجأة .. توقف النبض .. فانتبهت ..
استرجعت نفسي .. تنهدت بعنف ..وقلت بصوت عال ٍ : لا ... ربما لم تمت .. كيف ؟ .. لقد تواعدنا على اللقاء ..
همست لنفسي : استغفر الله العظيم ..
استدرت بسرعة ..وتوجهت إلى " كاونتر " الممرضات على الفور..
سألت الممرضة أين " ف " ؟
وقبل أن تجيب على سؤالي: كانت عشرات الإجابات الصامتة تهمس في روحي : لقد نقلناها إلى غرفة أخرى .. أخذتها الممرضة لتستحم . في دورة المياه .. في غرفة الأشعة .. وفجأة قاطعني صوت الممرضة تسألني :
هل أنت قريبتها؟
كأنما كانت الممرضة في بلد بعيد .. وكأنما هبطت لتوي أمامها من اللا مكان .. ومن فراغ سحيق ... وكأنما سؤالها يهز كتفي ليوقظني من سبات عميق ..
قلت لها " هاه .. أنا .. ؟؟ لا لا .. أنا صديقتها نور "..
فقالت : منذ أن حضرت " ف " إلينا .. لم تتكلم أبداً .. اليوم فقط .. سألت عنك في الصباح كثيراً .. وطلبت منا أن نتصل بك أن كنا نعرف رقم هاتفك .. كانت تريد أن تراك بشدة .. اعتذرنا لها لأننا لا نعرف طريقة للاتصال بك وأنك لم تتركي رقم هاتفك عندنا بالأمس .. وقد طلبت منا أن نبلغك رسالة منها..
فقلت لها : ما هي ؟.
قالت : " تقول لك : أرجوك لا تخبري أمي !! " .. وأنك إذا جئت ولم تجديها .. فإنها تعتذر لأنها أخلفت موعدها معك !!
وأنها قد حاولت الاتصال بك لتقديم الموعد لأنها تشعر بأن بعد الظهر متأخر جداً !! " .
واليوم قبل الظهر ماتت !!
لم أسمع من كل حواري مع الممرضة سوى هذه الكلمة " ماتت " .. توقف كل شيء .. لم أبك كما بكيت لحظتها ..لم أحزن كما حزنت على رحيلها .. لم أحرص على موعد .. كما حرصت على موعدي معها .. لكنها اعتذرت .. لم ترحل في صمت .. تكلمت قبل رحيلها الأخير .. لم تنشأ أن تشوه حزن أمها عليها .. لم ترد لهذا الفيروس اللعين أن يغتال طهارة بكائها على فلذة كبدها .. وسندها .. وعائلها في هذه الحياة ..
لم ترد جرح كبريائها الذي عاش مفتخراً بتربية ابنتها التي كانت تراها بمائة رجل .. وبألف أمل .. وبمليون رجاء في أن تعود ..
" ماتت " .. ولم ترد أن تدنس كبرياء حزن أمها التي لم يحن هامتها الزمن المر بـ " خطيئة " .. بفاجعة دنست جسد ابنتها الطاهر بماء خطأ .. بماء غير شرعي ..
ماء خلقه الله ليهب الحياة .. فوهب ابنتها الموت ...
" ماتت " .. وأرادت لقلب أمها المكلوم أن يأخذ فيها عزاءً طاهراً .. في عالم لا عزاء فيه للخاطئات .. ولا كفن يستر الخطيئة ..
"ماتت " .. قبل أن تخبرني بكل ما في نفسها .. ماذا كانت تريد أن تقول لي ... اعتذار للحياة ؟!! أعتذار لروحها؟!! أعتذار لكل شيء ؟!!
أم ماذا ..؟! سؤال لن أجد له أجابة أبداً..
أعدك يا " ف " ..بأنني سأحزن لك دائماً .. وسأدعو لك دائماً بأن يغفر الله لك .. وأن يكون ما أصابك في الدنيا قد طهر جسدك الغض .. لتكون روحك طاهرة في الآخرة .. وحرة من الذنب ..
أعدك يا " ف " بأن يكون لقائي القصير معك .. رسالة لكل فتاة تسلم روحها لشيطان .. وجسدها للذئاب ..
أعدك يا " ف " .. أنني لن أخبر أمك ..
نساء الزمن المر
بألم : نور محمود
مجلة رؤى العدد الأول
منقوووووووول
تعليق